أخي الإمام حسن الصوت
لقد خصك الله جل وعلا وفضلك على كثير ممن خلف بنعمتين عظيمتين تغبط عليهما:-
الأولى: بأن هيأك الله وجعلك إمامًا للمسلمين في ثاني أركان دينهم الصلاة، فهنيئًا لك أجر الإمامة وفضلها، وحفظ الله لك هذه النعمة.. وما أعظمها من نعمه.
أما الأخرى: فهي أن الله عز وجل – صاحب الكرم والجود – قد منحك ووهبك صوتًا عذبًا وتلاوة جميلة جعلت الكثير من المصلين يتركون مساجدهم القريبة إليهم ويأتون لمسجدك مع ما في ذلك من عناء ومشقة عليهم.
ورغبة في مشاركتكم تلك الأجور العظيمة.. كتبت لكم هذه الأسطر لتتناول – فقط – النعمة الثانية التي قد حباك الله بها، وهي نعمة الصوت العذب والتلاوة الجميلة لعلي أستطيع من خلال هذه الرسالة – إن وجدت القبول منكم – أن أضيف شيئًا ذا قيمة يزيد من أثر تلك النعمة عليكم، فيزداد أثرك على من يسمع تلاوتك.
الموضوع وأهميته:
إن مما يفقد كثيرًا عند التلاوة: التدبر والخشوع فيها إلا عندما تأتي آيات الجنة والنار فيحصل في الغالب التريث في القراءة وتدبر معاني الآيات والتأثر بها، وفي هذا إغفال لعبادة عظيمة القدر جليلة النفع وهي تدبر آيات الكتاب العزيز والتي هي روح التلاوة ولبها – وسيأتي بيان ذلك مفصلاً -.
وبسبب ذلك أصبح عامة المأمومين يرون أن محل التدبر في القرآن والتأثر به هو تلك الآيات وحدها.. بل أعظم من ذلك أن بعض المصلين – بسبب هذا الأمر – يظن أن القرآن الكريم إنما هو للوعظ فحسب، فينصرف فكره عما في القرآن الكريم من آيات الصفات الربانية وما فيها من الكمال والجمال، ويغفل عن آيات القصص وما فيها من العبر والدروس، ويلهي عن الآيات التي تتحدث عن نعم الله سبحانه وآلائه على عباده وغير ذلك كثير.
* الأسباب:-
ولعل أسباب هذه الظاهرة ثلاثة أمور:
الأول:- القصور في العلم بأهمية عبادة التدبر والتأمل عند قراءة القرآن الكريم ويدخل تحت ذلك الظن بأن التدبر هو البكاء بينما هو أحد صوره وآثاره.
الثاني:- ضعف العلم بمعاني ومدلولات كثير من الآيات والذي يحجب بدوره عن لتفكر والتدبر فيها.
الثالث:- ولا يكون إلا في رمضان وهو رغبة كثير من المصلين ختم القرآن كاملاً مع نهاية الشهر مما يجعل الإمام – لتحقيق تلك الرغبة – يستعجل في قراءته، فيصبح همه متى ينتهي من السورة أو الجزء فيفوت عليه التدبر والتأمل.
وستعالج هذه الرسالة – بإذن الله – تلك الأمور في
الأسطر التالية:
أولاً: القصور في العلم بأهمية عبادة التدبر عند قراءة القرآن الكريم:-
تعريف التدبر:
قال ابن القيم رحمه الله: هو تحديق ناظر القلب إلى معانيه وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى: }كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ{ [ص: 29].
أهمية التدبر:
* ترك التدبر نزع لخيرية التلاوة كما قال علي بن أبي
طالب : «لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها».
* عدم التدبر يعتبر نوع هجر للقرآن الكريم فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن هجر القرآن أنواع منها: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
* عدم التدبر ترك للمقصود الأعظم من قراءة القرآن فقد قال النووي رحمه الله: ينبغي لقارئ القرآن أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع، فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.
وقال الشيخ سلمان بن عمر السنيدي حفظه الله في كتابه القيم «تدبر القرآن»: في الحث على التدبر آيات وأحاديث ومواقف وأقوال وأحوال السلف أكثر عددًا من مثيلاتها الدالة على فضل القراءة، بل أقوى حجة وأعمق أثرًا.
* التدبر من أعظم أدوية القلوب - من أسقامها - كما قال إبراهيم الخواص رحمه الله: دواء القلوب في أربعة – وذكر أولها – قراءة القرآن بالتدبر.
* إن التدبر من أزكى وأطيب ثمرات حفظ القرآن الكريم حيث وجه القرطبي رحمه الله نصيحة ثمينة لحفظة كتاب الله فقال: فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته ويتدبر حقائق عباراته ويتفهم عجائبه ويتبين غرائبه.
* التدبر يجعل ويبقي القلب يقظًا بعيدًا عن الغفلة.. فإن آيات الجنة والنار كالسياط توقظ من الغفلة لكنها سرعان ما تبرد فيذهب أثرها لدى الكثير بخلاف آيات الصفات والقصص والتذكير بالنعم ونحوها فإنها أدوم وأبقى، وهي التي تورث أعظم عبادات القلب التي بها حياته ومتى ما صلح؛ صلح الجسد كله كما قال ابن القيم رحمه الله: فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر.. وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله.
نماذج من التدبر والتأثر بآيات القرآن (غير آيات الجنة والنار):-
* تدبر الآيات التي تدعو إلى الرحمة: فعن عبد الله بن
مسعود قال: «قال لي النبي : اقرأ علي. فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال r: فإني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت }فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا{ [النساء: 41] قال لي: أمسك. فإذا عيناه تذرفان». (متفق عليه).
قال ابن حجر رحمه الله: والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته.
* تدبر الآيات التي تدعو للاستقامة والثبات عليها: قال ابن عباس ما في قوله تعالى: }فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{ [هود: 112] قال: ما نزلت على رسول الله r آية هي أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال: «شيبتني هود وأخواتها» رواه الطبراني والترمذي والحاكم. فلنتأمل حالنا عند قراءة أو سماع هذه الآية ونحوها.
* تدبر آيات القرآن كلها: حيث كان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فلا يرتبط بكاءه بآيات الجنة والنار فحسب.
* تدبر الآيات التي فيها صدق اللجوء إلى الله تعالى والتذلل له والشكاية إليه: قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر t وأنا في آخر الصفوف وهو يقرأ }قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ{ [يوسف: 86].
* تدبر الآيات التي ذكرت العقاب الدنيوي الذي أصاب المخالفين والخوف من أن يصيب القارئ ما أصابهم: فعن عكرمة قال: جئت ابن عباس وهو يبكي، وإذا المصحف بين يديه في حجره فأعظمت أن أدنو منه، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ فقال: هؤلاء الورقات. وإذا هو في سورة الأعراف ... وذكر أصحاب السبت ... ثم قرأ ابن عباس }فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ{ [الأعراف: 165] قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها.. الحديث.
* تدبر الآيات التي تحذر من مغبة المعاصي في الدنيا والآخرة، وتعد المؤمنين بالنعيم في الحياة الدنيا قبل نعيم الآخرة: فقد قام تميم الداري بآية حتى أصبح وهي قوله تعالى: }أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ{ [الجاثية: 21].
* تدبر الآيات التي تذكر بنعم الله تعالى على عباده: فقد ردد الحسن البصري رحمه الله ليلة: }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا{ [النحل: 18] حتى أصبح فقيل له في ذلك فقال: إن فيها معتبرًا، ما نرفع طرفًا ولا نرده إلا وقع على نعمة، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر.
فما أكثر الآيات التي يذكرنا الله سبحانه بنعمه علينا: كتسخير المخلوقات لنا، أو حفظه وقيامه بشؤوننا أو ستره علينا، أو دفع أعدائنا، أو هدايته لنا، وغيرها لا يحصى؛ بل إنك ستجد آيات عديدة يمتن الله جل وعلا فيها على أنبيائه وخير خلقه بنعمه عليهم ويعدد بعضها عليهم.
* أخي الكريم لم يقتصر التدبر والتأمل في آيات القرآن الكريم على أهل العلم والفضل بل حتى الأعراب الذين يغلب عليهم الجهل والغلظة والجفاء هزتهم آيات الله سبحانه وحركتهم، فقد سمع أعرابي قول الله تعالى: }فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ{ [الذاريات: 23] فصاح وقال: يا سبحان الله! من أغضب الجليل حتى حلف. ألم يصدقوه في قوله؟!.
ثانيًا:- ضعف العلم بمعاني ومدلولات كثير من آيات القرآن الكريم:
(أ) بيان أهمية فهم معاني ومدلولات آيات القرآن الكريم:-
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: }أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ{ [النساء: 82]: وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن ولذلك : }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ [يوسف: 2].
ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس ينبغي لطالب العلم خاصة أن يتدبره وأن يراجع ترتيب الأولويات لديه لكي لا يصاب بالحسرة.
يقول رحمه الله: فما أشدها من حسرة وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه.
(ب) ما يسعد على فهم مدلولات الآيات القرآنية:-
1- قراءة كتب التفاسير وخاصة تلك التي تتناول الجوانب الإيمانية والسلوكية كمثل تفسير العلامة السعدي ونحوه.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته. فكم هو – أخي – نصيب كتب التفسير من قراءتنا؟
وقال القاضي إياس بن معاوية رحمه الله: مثل الذين يقرؤون القرآن ولا يعرفون التفسير كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلاً، وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة لا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذين يعرفون التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب.
2- تصور وتفهم مدلولات كل آية.
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: وينبغي للتالي أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، ويتفهم ذلك، فإذا تلا قوله تعالى }الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ{ [الأنعام: 1] فليعلم عظمته، ويتلمح قدرته في كل ما يريد، وإذا تلا }أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ{ [الواقعة: 58] فليتفكر في نطفة متشابهة الأجزاء كيف تنقسم إلى لحم وعظم وعصب ودم.
3- سلامة القلب وطهارته من الأمراض الظاهرة والباطنة.
يتلمس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معنى لطيفًا عند قوله تعالى: }لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ{ [الواقعة: 79] فيقول: فإذا كان ورقه لا يمسه إلا المطهرون فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة.
ويشير الزركشي رحمه الله إلى أن التقوى من أعظم ما يدرك بها المرء لذة القرآن فيقول: من لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئًا.
ومن جانب آخر: فإن مما يهيئ القلب لتدبر القرآن وفهمه، البعد عن الشبع وترك فضول الطعام، فإن المعدة الملأى تشغل القلب عن التدبر والتأمل، فقد قال الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم كل في ثلث بطنك واشرب في ثلثه، ودع ثلثًا يتنفس ويتفكر.
وقال محمد بن واسع رحمه الله: من قل طعامه فهم وأفهم وصفا ورق.
4- إنزال الآيات على حال القارئ واتهام النفس بأنها المقصودة عند كل آية ذم ولوم، وعدم تزكيتها عند آيات المدح والثناء.
قال ابن عقيل رحمه الله في الفنون - ذامًا من هو خلاف ذلك -: تسمع قوله تعالى: }وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ{ [القيامة: 22] فتهش لها كأنها فيك نزلت، وتسمع بعدها }وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ{ [القيامة: 24] فتطمئن أنها لغيرك، ومن أين ثبت هذا الأمر؟ ومن أين جاء الطمع؟ الله الله، ما هذه إلا خدعة تحول بينك وبين التقوى.
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله: وربما سمع بعضهم قول من قال من المفسرين: هذه نزلت في عباد الأصنام، وهذه نزلت في النصارى، وهذه في الصابئة، فيظن الغُمْر أن ذلك مختص بهم وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن.
5- استشعار القارئ أنه يتلو كلام الله جل وعلا وأنه يناجي ربه.
فإن القارئ متى استشعر ذلك واستشعر عظمة الله جل وعلا حصل له – ولابد – التدبر والانتفاع بما يقرأ كما قال ابن القيم رحمه الله: إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله.
ويؤكد هذا المعنى ابن قدامة المقدسي رحمه الله فيقول: وليعلم أن ما يقرأه ليس كلام بشر، وأن يستحضر عظمة المتكلم به سبحانه ويتدبر الكلام.
ولا يكتفي القارئ بذلك الشعور فحسب؛ بل ينبغي أن يتذكر ويستشعر أنه واقف أمام خالقه ومولاه عز وجل ليناجيه ويتقرب إليه، وقد قيل لسفيان رحمه الله: الرجل إذا قام إلى الصلاة أي شيء ينوي بقراءته وصلاته؟ قال: ينوي أنه يناجي ربه.
ويجدر هنا ذكر أمر يقع من البعض لا يتناسب ويصلح مع مقام المناجاة لله رب العالمين ألا وهو رفع الصوت الزائد عند التلاوة بحيث يخرج القارئ عن استشعار أنه يناجي الله تعالى وأنه ينبغي له التذلل والانكسار والخضوع له عز وجل.. فإن الذي يدخل على ملوك وسلاطين الدنيا ليسألهم حاجة لا يرفع صوته بالمسألة بل يتلطف في العبارة ويلين الكلام ويخفض الصوت.. فكيف بمن يناجي ملك الملوك وعظيم السموات والأرض العزيز الحكيم!!.
عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي في سفر فكنا إذا علونا كبرنا فقال: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا ولكن تدعون سميعًا بصيرًا» (متفق عليه).
فتأمل – أخي – كيف أن رسول الله أمر من يمشي في سفرًا أن يخفض صوته فكيف بمن هو واقف في صلاة؟
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: إن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه وأنتم تدعون الله تعالى وليس هو بأصم ولا غائب بل هو سميع قريب وهو معكم بالعلم والإحاطة، ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر.. فإنه إذا خفضه كان أبلغ في تعظيمه وتوقيره سبحانه.
وقال أبو الطيب رحمه الله في عون المعبود: المراد أنه لا حاجة لكم إلى الجهر البليغ ورفع الصوت كثيرًا فإنه سميع عليم.
ومما يؤثر كذلك على المناجاة والتدبر إدخال الصدى الذي يجعل المأموم لا يكاد يتبين الآيات فضلاً أن يتدبرها. ولو سأل الإمام بعض من يصلي خلفه عن درجة الصوت والصدى لتبين له حقيقة ذلك.
6- معايشة معاني القرآن الكريم.
فمتى كان القارئ داعيًا لما في القرآن حاملاً لهموم أمته ويبذل ويجاهد ويناظر كان وقع الآيات في نفسه أكثر؛ لأنها حينئذ ستصور ما فعله ويفعله في سبيل الله.
يقول الشيخ سلمان بن عمر السنيدي: كل مؤمن يحمل نصيبًا من حمل رسالة القرآن سيعيش مع الآيات تدبرًا وتأثرًا ما كان يعيشه في أرض الواقع معاناة وجهادًا ومواجهة ودعوة وبذلاً.
7- استشعار أن الله عز وجل بعظمته وعلوه وكبريائه يستمع للقارئ حسن الصوت كما ورد في الحديث «الله أشد أذنًا – أي استماعًا – إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» رواه ابن ماجه وصححه وابن حبان والحاكم.
8- استشعار أن آيات القرآن لو أنزلت على الجبال الصم لرأيتها خاشعة متصدعة من أثرها، فكيف لا تتأثر مضغة لحم صغيرة هي قلب الإنسان.
ومن الغريب أن يقرأ القارئ الآيات التي تحكي ما قاله المجرمون الكافرون في ذات الله سبحانه من انتقاص وإلحاد ثم يمر عليها ولا يهتز لها أن هؤلاء المجرمين الآثمين قالوا في حق مولاه وسيده وخالقه أعظم البهتان والافتراء، كقول اليهود عليهم لعائن الله المتعاقبة: }وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ{ [المائدة: 64] وقولهم: }إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ{ [آل عمران: 181] وقول النصارى عليهم غضب الله: }وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ{ [التوبة: 30].
فهل تكون السموات والأرض والجبال أكثر تأثرًا وغضبًا لما قيل في ذات خالقها وبارئها من ذلك الإنسان الذي كرمه الله عليها؟
قال الحق تبارك وتعالى وتنزه عما يقول الظالمون: }وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا{ [مريم:
88-92].
9- قراءة الكتب التي تتحدث عن صفات الله وأسمائه ونعمه وآلائه وتدعو وتربي على التفكر والتدبر.. ولعل من أفضلها كتب ابن القيم رحمه الله وخاصة كتبه: مفتاح دار السعادة والفوائد أو أحد مختصرات كتابه القيم مدارج السالكين ومن أحسنها تهذيب مدارج السالكين.
ثالثًا: الاستعجال في قراءة القرآن لتحقيق رغبة المصلين في ختمه خلال شهر رمضان.
فإن في ذلك إغفالاً لعجائب القرآن وتركًا لمحرك جليل من محركات القلوب كما قال ابن مسعود t: لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
وقال الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم.. كيف يرق قلبك وإنما همتك في آخر السورة؟!
وفي الاستعجال بقراءة القرآن ترك لأمر من أوامر الله تعالى بالتريث بقراءته وتدبر معانيه كما قال القرطبي رحمه الله عند قوله تعالى: }وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً{ [المزمل: 4] أي لا تعجل بقراءة القرآن بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني.
كما أن في العجلة تفويتًا لما ينفع القلب ويزيد الإيمان حيث قال ابن القيم رحمه الله: فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن.
والعجلة تجعل القارئ يغفل وهو في عبادة التلاوة والعبادة لا ينبغي أن تؤدى بغفلة:
قال الآجري رحمه الله عما ينبغي لقارئ القرآن: همه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟ وإنما مراده: متى أعقل عن الله الخطاب، متى أزدجر، متى أعتبر؟ لأن تلاوة القرآن عبادة والعبادة لا تكون بغفلة.
وفي استعجال الإمام بقراءة القرآن تفويت لما ينفع المصلين خلفه وذلك من أهم مهماته، فقد وجه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كلامًا نفيسًا للأئمة فقال: ليس المهم – للإمام – أن يختم وإنما المهم أن ينتفع الناس في صلاته وفي خشوعه وفي قراءته حتى يستفيدوا ويطمئنوا... لأن عنايته بالناس وحرصه على خشوعهم وعلى إفادتهم أهم من كونه يختم.
وختام هذه الرسالة وتاج ما سبق وأسه وأساسه:
استصحاب الإخلاص دائمًا وتجديد النية والبعد عن العجب.
فقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم أن من أول الثلاثة الذين تسعر فيهم النار يوم القيامة: قارئ القرآن ليُقال له قارئ.
وقال النبي: «من غزا ينوي عقالاً فله ما نوى» رواه أحمد.
ولتعلم – أخي الكريم – مدى الإخلاص عند تلاوة القرآن.. تأمل قول ابن الجوزي رحمه الله: فرب خاشع ليقال ناسك، وصامت ليقال خائف.. وعلامة المخلص أن يكون في جلوته كخلوته.
واحرص – رعاك الله – على إخفاء بكائك فقد قال الحسن البصري رحمه الله: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام.
وإذا رأيت – حفظك الله – الناس من خلفك لا يتأثرون بقراءتك فلا تتهم قلوبهم بل راجع نيتك ومقصودك.. فقد روي أن قاصًّا كان بقرب محمد بن واسع رحمه الله فقال له: مالي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟ فقال محمد بن واسع: يا فلان ما أرى القوم أتوا إلا من قبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب.
فيا أخي الإمام المبارك.. إذا وقفت للصلاة.. فاقرأ لمن أمامك، ولا تقرأ لمن خلفك.
ومما ورد في العُجْب قول النبي r: «ثلاث مهلكات – وذكر منها – إعجاب المرء بنفسه» [صحيح الجامع برقم 3045].
وقد عرف ابن المبارك رحمه الله العجب تعريفًا دقيقًا فقال: أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شرًّا من العجب.
أخي الإمام.. إذا سمعت ثناء الناس عليك وعلى تلاوتك فما أنت صانع؟
قال رجل ما لابن عمر: يا خير الناس، أو يا ابن خير الناس، فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله وأخافه، والله لا تزالوا بالرجل حتى تهلكوه.
ومما يدفع به العجب ما قاله الشافعي رحمه الله: إذا خفت على عملك العجب؛ فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم